الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة في قسم "نظرة ما": "القرية المجاورة للجنة" لمو هاراوي نجم يخترق سماء كان

نشر في  22 ماي 2024  (17:07)

بقلم الناقد طاهر الشيخاوي

ثمّة أفلام، عديدة هذه السّنة في المسابقة الرسمية، لا تثير الرغبة في الكتابة عنها وثمّة أخرى تدفعك دفعا إلى ذلك مُرجئا لساعات مواصلة مشاهدة بقية الافلام. لم ينتابني منذ بداية المهرجان شعورٌ مثل الشعور الذي تركه في نفسي فيلم "القرية المجاورة للجنة " للمخرج الصومالي مو هاراوي. اكتشفت هذا السينمائي الشاب عند مشاهدتي لشريطه القصير"هل سيزورني والداي ؟"، عرضناه في الدورة الأخيرة لمهرجان السينما الافريقية بمدينة آبت.

شريط طويل أوّل إذا. في قرية نائية بالصومال نرافق ثلاث شخصيات من نفس العائلة أب وأخته وابنه. أوّل ما يدل على قيمة العمل هو صعوبة الحسم في تحديد الشخصية الرئيسية.

الأب، ممرغاد، لا شغل قارّ له، سائق حافلة أحيانا وحفار قبور أحيانا أخرى. رغم مساع متكرّرة لم يتمكن من الحصول على شغل دائم. يسكن بيتا متواضعا مع ابنه الصغير سيغال وشقيقته أراويلو. نكتشف تدريجيّا وفي أوقات مختلفة من الشريط أن أراويلو انفصلت عن زوجها وأن زوجة ممرغاد وأم سيغال متوفية ثم أشياء أخرى أهمّ. تتضح حيثيات هذه الأوضاع العائلية وفق ترتيب مدروس في لحظات معينة من السرد خلافا لما يحدث غالبا، فلا ينغلق ادراكنا للشخصيات في مسببات تحدّد مسارَها وتضيّق مجال تقبّلنا للقصّة. تماما كما يحدث عندما نتعرّف على شخص ما، نتابع تصرّفاته ونلازمه مدّة قبل أن يبوح لنا بأسراره. إلى جانب هذا التوزيع المتروّي للمعلومات هناك غياب، جزئي أحيانا وتام أحيانا، لمصدر أحداث أخرى هامّة نرغب بداهةَ في معرفتها وننجرّ بحكم هذه الكتابة إلى تخيّلها بأنفسنا.

فالشريط يبدأ بمشهد مثير للغاية: سيارة تنفجر فجأة بفعل قنبلة لفظتها طائرة حربية أمريكية. يهلك صاحبها الذي يفترض أنه إرهابي. في المشهد الموالي نتعرف على ممرغاد وقد انتهى من حفر قبر الضحية. لا يعود الراوي إلى موضوع الطائرات وغاراتها إلاّ بصفة غير مباشرة وبطرق مختلفة كحديث سيغال مثلا عن النصائح التي تلقاها من مدرّسه عند حدوث مثل هذه الهجمات.

تسير الأحداث على هذا المنوال متجنبة الثرثرة والإطناب في مدّ المشاهد بالمعطيات التي "تساعده" على متابعة الأحداث. قد ينزعج البعض من هذا، أمرٍ ظاهرُه شح ّوباطنه عطاء واحترام للمشاهد وثقة في قدرته على الاستنباط. الحوارات قليلة والصّورة تأخذ ما لزم من وقت. ومع تقدم الزمن نغوص في عالم يبدو هزيلا في بادئ الأمر فيتكثف شيئا فشيئا ويتعقّد وفق وتيرة درامية متصاعدة.

لكن من يدرك الإمكانيات التعبيرية للغة السينمائية يمكنه التماس الأمر منذ بدايات الشريط. يكفي الانصات إلى الرياح التي تغمر هذه الفضاءات الجرداء...

يطول الحديث عن "القرية المجاورة للجنة" وامتنعنا عمدا عن كشف بقية الأحداث حتى لا نحرم الجمهور من متعة المشاهدة. من يدري ؟